النجف نيوز – الأثرُ الشعريّ.. القصدُ والرؤيا

مارس 11, 2019
57

النجغ نيوز/ محمّد صابر عبيد

الشعرُ هو الكونُ الأكثرُ عذاباً بين الأكوان المقترحة والمتداولة جميعاً، هو الكونُ الجميلُ الساحرُ الحاضرُ الغائبُ، الأرضيُّ السماويُّ، اللابثُ المتحوّلُ، في ظلّ إرغام الروح على الاستجابة لِلذّة الوهم، ليترك أثره في الأشياء على نحو غير قابل للمحو أو النسيان، فهو ذاكرة حيّة عجيبة في قدرتها على مقاومة إذلال الزمن، وهذا الأثر الشعريّ العميق في تجذّره داخل كيان الفرد وكيان الجماعة هو ذاكرة مستمرّة في أصل تكوينه وحضوره.

المزاج الشعبيّ والجماهيريّ للشعوب له تأثيره البالغ في تكوين مفهوم خاصّ للشعر، ليس على صعيد التفاعل المباشر مع الرؤية المزاجيّة بل على صعيد الاستجابة النوعيّة السيميائيّة للوعي الشعبيّ في القراءة والتلقّي، بما يتيح مجالاً لوضع الأثر الشعريّ بين سندان القصد ومطرقة الرؤية في الكتابة والنظر والتمثيل والتلقّي معاً.

ثّمة مواضعات خاصّة أو بالغة الخصوصيّة للقصد الشعريّ تنفي عن الشعر العفويّة والمباشرة والتقريريّة، وتجعل من اتصاله بالرؤية وسيلةً فنيّةً وجماليّةً لتأمين فضاء القصد وترسيمه على أرض النصوص وسمائها ومحيطها وطبقاتها وظلالها وزواياها، على النحو الذي يجعل الرؤية الشعريّة قابلة لتمثيل كلاميّ يجيب على الأسئلة الكبرى في الحياة بطريقة مدهشة ومكتنزة بالقيمة والمعنى الكثيف والمركّز.

الشعر العربيّ القديم الذي وصلنا هو الشعر الرسميّ (الوظيفيّ) الذي كانت تسمح السلطات الرسميّة بتدوينه وشيوعه وتداوله، حتماً هناك شعر آخر لشعراء خارج الوظيفة الرسميّة للسلطة لا هدف له سوى محاولة يائسة لاصطياد الدمى، وهو شعر مسكوت عنه وشعراء مسكوت عنهم، هذا افتراض يقترب عندي من اليقين فيما يؤسس لرؤية نقديّة تقترح إعادة إنتاج النصّ الشعريّ العربيّ القديم بوسائل قرائيّة حديثة غير مؤدلجة.

كلّ الشعراء الذين عرفناهم من العصر الجاهليّ حتى نهايات العصور العباسيّة (أو ما وُصِفَ بالعصور المتأخرة) هم شعراء سلطة، مع استثناءات قليلة طبعاً فرضت نفسها بقوّة الشعر والفكر، أمّا العصر الحديث فقد شهد تطوّرَ الشعر الوظيفيّ السلطويّ كثيراً لكنه سمح في الوقت نفسه ببروز (شعر اللعب) لاتساع الكتابة والنشر خارج إرادة السلطات. 

فقد تغيّرت هنا قواعد السلوك والفعل والانتماء والتحزّب، وتغيّرت على أساسها الكثير من المفاهيم والمصطلحات وصار شعر اللعب موازياً على نحو ما لشعر السلطة، متفوّقاً عليه بطبيعة الحال في الجماليّة والخلود.

ثمّة شيء يوصف في أدبيّات العلوم الاجتماعيّة المعاصرة بـ ((القضيّة))، إذ تتعدّد وتتنوّع مفاهيم القضيّة بحسب طبيعة الرؤية الثقافيّة التي تحيطها وتتمركز في بؤرتها، فهي إمّا أن تكون سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة أو غير ذلك، لكنّ القضيّة بمعناها السياسيّ هي الأكثر هيمنة على تداوليّة المفهوم في المناخ والمزاج العربيّ في النصف الثاني من القرن العشرين على وجه التحديد، وربّما تكون (القضيّة الفلسطينيّة) منذ أربعينيّات القرن الماضي واحدة من أشهر وأبرز وأسخن القضايا العربيّة حتى وصفتْ بقضية العرب المركزيّة حتى الآن، وسمّي الشعر المعبّر عنها بـ (شعر المقاومة

 الفلسطينيّة).

ارتبط الشعر المقاوم على صعيد المصطلح النقديّ بثلاثة شعراء صنّفتهم النقديّة العربيّة الحديثة بـ (شعراء المقاومة الفلسطينيّة) وهم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وظلّوا يهيمنون على مقدّرات الشعر الفلسطينيّ عقوداً من الزمن بقدسيّة عجيبة لا يمكن المساس بها أو حتّى مناقشتها، لفرط قوّة حضورها في الضمير الشعريّ العربيّ والذاكرة الشعريّة العربيّة والتلقّي الشعريّ العربيّ الذي يمزج بين فلسطين القضيّة وفلسطين الشعر.

الشعراء الفلسطينيون الذين ظهروا بعد جيل شعراء المقاومة راحوا ضحية هذا المفهوم (شعر المقاومة)، إذ خرجوا كلّهم من عباءة القضية وعيونهم على المفهوم من دون أن تسمح السلطة الشعريّة بوصول أحدهم إلى عتبتها حتى وإن فاقت شعريّته وانتماؤه ثلاثيّ شعراء المقاومة، بعد أن اكتسب المفهوم الدرجة القطعيّة لصالح الشعراء الثلاثة وسُجّل باسمهم بوصفه سنداً أسودَ لا يمكن التلاعب بشرعيّته وتملّكه

 وقدسيّته.

عاد بعضهم من رحلة السباق المحموم نحو المفهوم بنتيجة خاسرة باحثاً عن مفهوم آخر يحميه من الضياع المفهوميّ، وظلّ البعض الآخر يصارع طواحين الهواء من أجل أن يعثر له على موطىء قدم (ولو على قدم واحدة) يتنفّس فيها هواء المفهوم ويستحمّ بشمسه الدافئة، وثّمة آخر وآخر وآخر تشظّى أو عثر على ملاذ أو ضاع في خضمّ حراك شعريّ عربيّ يشتغل فيه آلاف إن لم أقل ملايين الشعراء العرب، من شاعر مميّز أصيل إلى شاعر يُصدر مجموعة شعريّة كلّ شهر تقريباً ولا يهمّه سوى وجود اسمه على أغلفة الكتب الشعريّة، ويُنادَى عليه بالوصف التقليديّ المُربِك الشائك (الشاعر).

هل يمكن القول إنّ فئة من شعراء فلسطين (ما بعد شعراء المقاومة) ابتكروا طريقاً ثالثةً خرجوا بها من عباءة المقاومة وعبروا قنطرتها وانتموا إلى الشعريّة العربيّة الحديثة بفضائها المتنوّع والمختلف؟ وصار الفضاء العربيّ (الذي يحمل في طيّة جوهريّة من طيّاته قضيّة فلسطين) هو الفضاء الأوسع والأعمّ والأشمل الذي يمكن للشاعر العربيّ الفلسطينيّ (وهو يسكن داخل فلسطين وخارجها) أن يرى أبعد ممّا يتيحه المفهوم من مساحة ضيّقة للتفكير والعمل والأداء والإنتاج! إنّه سؤال معقّد بعض الشيء يحتاج إلى دراسة معمّقة للنظر فيه ودراسته والتعامل مع تمظهراته

 وتشظيّاته.

التصنيفات : ارشيف الاخبار
استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والاعلان