النجف نيوز – مفهوم التفسير الموضوعي للنص القرآني بين منطق السيد محمد باقر الصدر ومنظور العلماء المحدثين

يناير 5, 2017
113

ا.م.د. سيروان عبد الزهرة الجنابي كلية الفقه/جامعة الكوفة dr_sn76@yahoo.com

تعدُّ القراءة المضمونية للنص المعجز أو ما يسمى بـ (التفسير) شيوعاً الحيثية المثلى والمنطلق الأصل الذي يُنتَهَجُ للدخول إلى المواطن الدلالية للنص لاستنطاق مكامنها فهو الوسيلة المنطقية والأداة الممارسة عملياً لقراءة خطاب السماء إلى البشرية؛ ذلك الخطاب الذي يمثل المنجز الأعلى -على وجه الإطلاق- لكل منجز أنتجته العقلية الإنسانية وكلُّ منجزٍ دونه وإن علا وارتفع؛ إذ استوعب هذا النص تجارب الأمم السابقة فحقق الاعتبار وأرسى أصول الحكمة، وضمَّ قوانين التعامل الإنساني سواء على مستوى الحقوق والواجبات أم على مستوى الأخلاق وضوابط التعامل مع الآخر فحقق أصل الوجود الإنساني وغايته، وانطوى على أسس العقيدة الحقة وقاعدة الثابت النصي التي لايشوبها شيء هنا او تعتريها شائبة هناك فحقق منظومة الثابت الإيماني الذي يسير في نطاقه العقل البشري، ويعلل الأشياء على أساسه.

من هنا كان لابد من وجود وسيلة أو إيجادها لفهم ما يحتويه النص؛ ذلك بأنَّ علاقة النص بالـمُنزَل عليه هي علاقة ثنائية الأركان فهي (علاقة تواصلية استيعابية) فأما تواصلها فباعتبار ديمومة الوجود الإنساني وثبات مكوناتها مع كل وجود، وأما استيعابها فباعتبار تلبية حاجة ذلك الوجود على مستوى جزئيات الزمن منذ لحظة نزوله (زمن المعاصرة المباشرة) والى ما يعاصرنا من حاضر (زمن التعايش الآني) والى ما سوف يرد مستقبلاً (زمن الاستكشاف الموعود).

وتأسيساً على هذا المنطق يمكن القول إنَّ النص القرآني إذا كان يمثل في إحدى خصائصه حلاً لأزمة التحديات التي تواجه العقل البشري؛ فإنَّ هذا يستلزم أنْ ينطوي ذلك النص على جملة من المضامين التي يمكن أن تُوصَف على أنَّها معالجات نصِّية إذا ما طُبِّقَت على ارض الوقع الإنساني فإنها ستُثمِر في تقديم حلٍّ انموذجي يُسهِم في إقصاء ما يواجهه ذلك الواقع من معرقلات وعوائق سواء أكان ذلك على المستوى العقائدي أم الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو ما يناظرها.

إذ لابد للعقل البشري من أنْ يواجه في مساره إشكالات معرفية تبتغي حلاً أو معالجةً، ذلك بأنَّ المبدأ السُّنني الذي تسير عليه الحياة يقتضي الانتقال من فسحة البساطة إلى سلطة التعقيد؛ من هنا كانت خصوصيات الحياة تشترط على العقل موضوعاً مُشكلاً يقع أمامه ذلك الفكرُ حائراً يرجو له تفصيلاً فيلجأ – والحال هذه- إلى النص القرآني مُلتمساً إجابة لذلك المشكل؛ من هنا يتجلّى ما يسمى بـ (المنهج الموضوعي في التفسير القرآني).

فالموضوعُ المرادُ تفسيره أو استنطاقه بياناً من النص لابدَّ من أنْ ينبثق من الواقع المعاش وبهذا يعدُّ نُشوء الإشكالية في الحياة المنطلق الأول أو المكوُّن الأساس لعملية وجود المنهج الموضوعي وتكامله، فلولا وجود المشكل الخارجي (الموضوع) ما توجّه العقل للبحث في طيات النص لاستخراج الإجابة؛ وهنا يرد المنطلق الثاني والأخير من المنهج الموضوعي في التفسير ألا هو (النص القرآني)، فهو المجيب عن إشكال ذلك الواقع، والوافي بمراد سؤال الحياة. 

من هنا تظهر لنا نقطة التباين بين منطق السيد محمد باقر الصدر والعلماء المحدثين في مسألة تحديد (مفهوم التفسير الموضوعي)؛ إذ للعلماء المنظِّرين لمفاهيم المناهج التفسيرية رؤيا تبتعد بعض الشيء عن المنطلق التنظيري الذي أسس السيد الصدر على مبدئه مفهوم التفسير الموضوعي؛ إذ ينطلق السيد الصدر من وجود مُشكل خارجي يمثل موضوعاً للبحث في طيات النصوص المعجزة سعياً وراء استكناه حلٍّ لذلك المشكل، على حين يرى العلماء أنَّ موضوعية هذا التفسير لاتكمن في مشكل خارج النص؛ إذ لا ينظرون إلى ذلك على انه شرط البتة؛ بل يرون أنَّ موضوعية هذا التفسير مُتأتية من داخل نسيج النص القرآني نفسه فهو ينطلق من ذات النص ليعود إلى ذات النص نفسه، وفي هذا مكمن تباين ومفارقة بين منطلق السيد الصدر ومنظور العلماء المحدثين.

إنَّ هذه التباين الفكرية والمفارقة التنظيرية سيتولى هذا الجهد البحثي الإجابة عنها مقاربةً لحلها باتباع منهج القراءة التأمُّلية والمنطقية لنصوص السيد محمد باقر الصدر – بوصفه رائداً للاتجاه الموضوعي في التفسير القرآني للعصر الحديث تنظيراً وتطبيقاً بلا خلاف-  مقارنةً مع نصوص العلماء المحدثين؛ عَلََّنا نقف على التنظير الأمثل والتوجيه الفكري الحق في تحديد الملامح التنظيرية لمفهوم التفسير الموضوعي للنص ذلك بان النمط من التفاسير الذي يعد من إحدى أنماط الإبانة للنص القرآني بلا منازع أو محاولة للجدل.

وتأسيسا على داعي الايفاء بالمطلب نقول إنَّ المرتكز المنطقي الذي وضعه السيد محمد باقر الصدر لداعي تسمية  هذا النمط البياني بـ (التفسير الموضوعي) ينصُّ على أنَّه قد أُطلِقَتْ عليه هذه التسمية تأسيساً على انه يبدأ بموضوع مُستعصٍ من الحياة وينتهي إلى استفهام دلالي من النص لقراءة ذلك المشكل على أساس منطق الحل؛ وبذلك يدور بين قطبين هما (التساؤل عن إشكالية خارجية) و(البحث داخل النص)؛ والرابط بينهما هو (العقل البشري) فهو الذي يُشخِّص ما في الخارج ليركن نحو البحث إلى ما في الداخل (النص المقدس) ليخرج بايفاءات عن ذلك التساؤل.

  ويسمى هذا النمط من التفسير بـ (الموضوعي) تارةً و بـ (التوحيدي) تارةً أخرى، حيث يقول: ((اصطلاح الموضوعية هنا … بمعنى أن يبدأ من الموضوع من الواقع الخارجي من الشيء الخارجي، ويعود إلى القرآن الكريم، …. وتوحيدي باعتبار انه يوحِّد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم، لا بمعنى انه يحمل التجربة البشرية على القرآن، لا بمعنى انه يخضع القرآن للتجربة البشرية؛ بل بمعنى انه يوحِّد بينهما في سياق بحث واحد لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحَّد من البحث، يستخرج المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الإسلام من هذه التجربة أو المقولة الفكرية التي ادخلها في سياق بحثه))( ) .

على حين نجد أنَّ منظور العلماء المحدثين الذين نظَّروا إلى مفهوم (التفسير الموضوعي) يباين منطق السيد الصدر في نظرته إلى مفهوم هذا النوع من التفسير؛ ذلك بأنَّهم يتَّفقون على أنَّ داعي تسمية هذا المنهج بـ (الموضوعي) إنما صادرة من جمع نصوص من التعبير القرآني تقوم تلك النصوص على موضوع واحد وتفسيرها تفسيراً شمولياً لانتزاع رؤية قرآنية متكاملة عن ذلك الموضوع المراد بيانه( )، ومن جنس الذين أسسوا هذه النظرة لمفهوم التفسير الموضوعي هو أمين الخولي؛ إذ يرى أنَّ مفهوم هذا النمط من التفسير يكمن في ((أن تجمع آياته الخاصة بالموضوع الواحد جمعاً إحصائياً مُستفيضاً، ويَعرف بترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها، ثم ينظر فيما بعد لتُفسَّر وتُفهَم، فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى، وأوثق في تجديده))( )، ويبدو أنَّ الدكتور الصغير قد شاطرَ أمين الخولي منطقَهُ المفهومي للتفسير الموضوعي؛ إذ ينصُّ على أنَّ التفسير الموضوعي يتحقق بـ ((أن يقوم جملة من المتخصصين على دراسة شذرات ونجوم من القرآن كل بحسب تخصصه، فيجمع الباحث مادة موضوع من موضوعات القرآن، ويستقصيها إحصاءً؛ لتكون هيكلاً مُترابطاً يشكل وحدةً موضوعيةً متكاملةً، ثم يقوم بتفسيرها بحسب منهجه، فالمتخصص بالإحكام يبحث آيات الأحكام والمتخصص بالعقائد يحصي آيات العقائد، وهكذا))( ) فكأنَّ المفهوم – على وفق منطق الدكتور الصغير- رهنٌ بالموضوع والتخصص؛ إذ نلحظ بأنَّه قد أخرجَ المفهوم من دائرة الموضوع الواحد إلى نطاق التخصص الواحد فالمفسر الموضوعي من وجهة نظره لا يأخذ موضوعاً معيناً فحسب؛ بل يُحصي الآيات المتعلقة بتخصصه ويستقصيها وإن تباينتْ موضوعاتها؛ وذلك إيماناً منه بأنَّ هذه الموضوعات وإنْ افترقت في السمات الجزئيِّة بيد أنَّّها مُتَّفِقَة في مرجعيتها الكلية، فكل آيات العقائد في التعبير القرآني وإنْ اختلفت طبيعة العقيدة فيها من نص إلى آخر من حيث الموضوع فانه يرى بأنَّها متوافقة جميعاً باعتبار أنها آيات عقائد لأنَّها جميعاً تتحدث عن (العقيدة) فهي الماهية الموحَّدة في النصوص كلها والـمُوحِّدة لتلك النصوص في الوقت نفسه، وإنَّ نصوص الأحكام وإنْ كان بعضها يخالف بعضها الآخر من حيث خصوصية الموضوع وطبيعة الحكم بيد أنَّها جميعاً نصوص أحكام؛ من هنا نلحظ أنَّ الدكتور الصغير قد فتح نطاق مفهوم التفسير الموضوعي بسعة اكبر مما قدمه أمين الخولي؛ فأحال المسألة على التخصص ولم يتوقف عند الموضوع فحسب .

ثم بعد ذلك يستأنف الدكتور الصغير كلامه مُستَرسِلاً ليفتح لنا باباً جديداً للتفسير الموضوعي؛ إذ يقول: ((وفي هذا المنهج كشف للصور المتعددة من الموضع الذي يعرض له القرآن أكثر من مرة، كالحديث عن موسى وبني إسرائيل مثلاً؛ إذ يقوم المفسر التقليدي بالحديث عنها في جزء من التفسير والعودة إليه في جزء آخر، بينما يقوم هذا المنهج بإحصائها وترتيبها، ويكشف بذلك قدرتها على استنباط حقائق الأشياء بالصور المختلفة التي حاولها القرآن بحسب مناسبة النزول وقرائن الأحوال))( ).

عند التأمُّل في هذا النص نجد أنَّ صاحبه يُطلِقُ منفذاً آخر للتفسير الموضوعي فهو بعد أنْ جعله تخصصياً في حديثه السابق نظر إليه ههنا على انه مشهدي؛ إذ يمكن بالتفسير الموضوعي جمع مشاهد القصص القرآني كقصة موسى (عليه السلام) مع بني إسرائيل وإعادة قراءتها على أساس التكامل الصوري والترابط المشهدي بدلاً من التَّفرقة والإبانة الجزئية المستقلة لكل مشهد أو صورة فيها.

وفي حقيقة الأمر إنَّ هذه النظرة من قبل الدكتور الصغير لها أثرها في الكشف عن المنطق الاعجازي للنص القرآني وقدرته البارعة على عرض المشهد على أساس علة النزول ومطلب الحال وكفايته، بيد انه لا يمكن أنْ يُعد هذا الأداء الكشفي المترابط من جنس التفسير الموضوعي – بناء على منطق السيد الصدر لمفهوم التفسير الموضوعي- لذا نؤثر تسميته بالتفسير للموضوع (المشهدي) لا (التفسير بالموضوع)؛ حيث لا موضوع؛ ذلك بأنَّه لا وجود لموضوع مضموني محدد يتمتع بدرجة من الاستقلالية يمكن جمع نصوصه وقراءتها توحيداً؛ بل هناك مشهد قد عُرِضَ بحيثيات تصويرية مختلفة لغايات بيانية ودواعي عللية غاية في الدقة والروعة؛ إذ إنَّ سلطة السياق وداعي النزول والمقدار التشخيصي المطلوب من المشهد تحديداً هي الحكم في تباين عرض ذلك المشهد من نص لآخر؛ لذا نطلق عليه تسمية (التفسير للموضوع التصويري او المشهدي) ولانسميه (التفسير بالموضوع) حيث لا موضوع بالمعنى التشخيصي المحدد.

بيد أننا نجد أنَّ  الدكتور الصغير نفسه في موضع آخر من كتابه يُرجِّح بناء مفهوم الاتجاه الموضوعي في التفسير على أساس داعي المشكل الخارجي، حيث يقول – وهو في معرض بيان أفضلية التفسير الموضوعي وعلة ترجيحه على غيره- : ((إن مهمة التفسير القرآني في العصر الحديث وفي المنظور العصري للمفاهيم والقيم تتبلور في بيان مواكبة القرآن للحياة، وتتأكد في ممازجة الهدف الديني في القرآن للهدف الاجتماعي، وإنما يبرز هذا الدور البناء لتفسير القرآن الكريم بإعطاء الحلول الإنسانية المناسبة لمشكلات الجيل في الحياة … ويبدو أنَّ التفسير التقليدي الذي دأب عليه السلف وتناوله بالوراثة الخلف عن السلف لا ينهض بمهمة مواكبة القرآن للحياة نهضة متكاملة … إننا نريد للقرآن أنْ يحتل مكانه في الحياة والعلم والاجتماع والفلسفة والاقتصاد والتاريخ، وذلك إنما يتأتى لنا بالتفسير الموضوعي للقرآن))( )، وبهذا نجده في هذا الموطن يوافق السيد الصدر في فهمه لمنطوق التفسير الموضوعي وهو الأرجح.

ولم يبتعد محمد شلتوت كثيراً في منظوره إلى مفهوم التفسير الموضوعي عمن سبقوه؛ إذ يقول -بعد أنْ يقسم التفسير على طريقتين {تجزيئية وموضوعية}-: ((أما الطريقة الثانية فهي ان يعمد أولاً إلى جمع الآيات التي وردت في موضوع واحد،  ثم يضعها أمامه كمواد يحللها ويعف معانيها ويعرف النسبة بين بعضها وبعض، فيتجلى له الحكم ويتبين المرمى التي ترمي إليه الآيات الواردة في الموضوع))( ) بهذا نجد أنَّ مفهوم التفسير الموضوعي عنده يتجسد في عملية التفسير التي تدور على موضوع واحد تُجمَع نصوصه من التعبير القرآني وتعاد قراءتها من جديد، وهذا المنطق يبتعد عن منطق السيد الصدر  في فهم التفسير الموضوعي؛ ذلك بأنَّ الأصل في المفهوم أنْ يقوم على مُشكل خارجي هو الذي يطلق عليه تسمية (الموضوع)؛ ومن ثم تجرى عملية البحث عن حل له باتباع مورد هذا الموضوع في النصوص القرآنية من اجل استنباط منظور متكامل عنه ويتم التعامل مع هذا الواقع المستعصي (الموضوع) على أساس منتجات القراءة التفسيرية الموضوعية للنصوص القرآنية الدائرة على هذا المورد.

ومن المحدثين من قسم التفسير الموضوعي على وفق مفهومه لديه على قسمين( ):

1- التفسير الموضوعي الكلي أو المطلق: و((هو استقصاء آيات القرآن الكريم التي تتناول موضوعاً واحداً وإفرادها بالدرس والبحث في تفسير وبيان ما تلهمه من المعاني الكريمة مستعيناً بترتيب نزولها خلافاً للمألوف في التفسير))( ) الشائع.

2- التفسير الموضوعي الـمُقيَّد أو الجزئي: وهو ((وهو التفسير الموضوعي لموضوع معين من سورة معينة كأنْ تقول مثلاً حد القذف في ضوء سورة النور))( ).

عند النظر إلى المنطق التقسيمي لهذا الباحث نفهم أنَّه كان يقصد بالقسم الأول ما تسالم عليه العلماء لمحدثون من فهمٍ للتفسير الموضوعي الذي هو عملية استقصاء بياني تجري على موضوع واحد تشترك فيه جملة من النصوص القرآنية، أما الثاني فقد ابتغى منه تفسير موضوع واحد  في آية تابعة لسورة، وفي حقيقة الأمر ثمة نظرٌ في القسم الأخير فضلاً عن القسم الأول؛ ذلك بأنَّ هذا الأخير لا يوافق مفهوم التفسير الموضوعي تأسيساً على النظرة المحدثة إليه التي تنصُّ على أنَّ المراد منه تفسير موضوع تشترك فيه جملة من النصوص القرآنية، على حين أنَّ هذا الأخير هو تفسير لموضوع واحد في آية واحدة؛ ومن ثمة ينتفي عامل الاستقصاء لجميع الآيات التي تتعلق بهذا الموضوع وبهذا يُلغَى أهم شرط من شروط قيام التفسير الموضوعي بالمنطق الحديث، ويبدو أنَّ الباحث قد تنبه على هذا الملحظ لذا أطلق عليه تسمية (التفسير الموضوعي المقيد او الجزئي).

وهذا ما لا نتفق فيه مع الباحث تماماً ذلك بأنَّه أطلق على القسم الأول (التفسير الموضوعي الكلي أو المطلق) وقد استعمل لفظة (المطلق) بغير موردها الدلالي في هذا الموضع وكان عليه أنْ يقتصر على مقولة (التفسير الموضوعي الكلي) باعتبار ان (الكلية) شرطٌ إلزامي وواجبٌ عيني في هذا الصنف من التفسير، أما الإطلاق فيعني الإبهام والشيوع وعدم الوضوح في تحديد المراد وليس هذا محله البتة.

أما إطلاقه على الجزء الثاني من التفسير الموضوعي تسمية (الجزئي أو المقيد) فان لفظة (المقيد) لا توافق المقام من حيث الدلالة المبتغاة منها؛ لان المقيد يقابل المطلق ويُفتَقَد اللازم بافتقاد الملزوم.

أما لفظة (الجزئي) فإنَّها ستنصرف إلى مفردة (التفسير) فنفهم بأنَّ هذه العملية الاستكشافية هي عبارة عن تفسير جزئي للموضوع الذي نحن في صدد تفسيره؛ ومن ثمة يعد التفسير قاصراً – والحال هذه- لأنه لا يتمتع بصفة الكلية والشمول كحال القسم الأول، فمازال التفسير (جزئي) فإنَّه يوحي بوجود تفسير (كلي) آخر لهذا الموضوع.

ولو أطلق الباحث تسمية قسميه على هذا النحو لكان أجدى وأوفق وهي:

1- التفسير الموضوعي العام على مستوى القرآن الكريم.

2- التفسير الموضوعي الخاص في نطاق الآية الواحدة أو السورة الواحدة فحسب.

ومع هذا فلا نرى دخول الخط الثاني في جنس التفسير الموضوعي لفقدانه الشمول والكلية إلا في حال اقتصر وجود هذا الموضوع في هذه الآية حصراً أو على مستوى هذه السورة فحسب.

ثم يسترسل الباحث ليفتح نطاق التفسير الموضوعي على مصرعيه؛ إذ يقول: ((والحق إنَّ هذا المنهج لم يكن جديداً بين مناهج التفسير كما يدعي البعض؛ بل لقد سار عليه من القدماء ابن قيم الجوزية حينما شعل نفسه بتفسير موضوع بعينه من القرآن وهو موضوع (القسم) فقد جمع آياته وتكلم عنها في كتابه {التبيان في أقسام القرآن} وكذلك موضوع المثل القرآني في كتابه {أمثال القرآن} ))( ).

وللرد على هذه المقولة نقول إنَّ هذا النمط التفسيري هو نمط حديث العهد على مستوى البيان القرآني وقد أسس له السيد محمد باقر الصدر بجدارة عالية سواء أكان من حيث المفهوم أم المصداق، أما ما ذهب إليه الباحث فلا يدخل في نطاق السداد والدقة، والدليل مصداقه الذي استند إليه وهو كتاب ابن قيم الجوزية {التبيان في أقسام القرآن} وكتابه {أمثال القرآن}؛ ذلك بأنَّ هذين الكتابين لا ينتميان إلى التفسير الموضوعي ولا يمتان له بصلة في شيء؛ لأنَّ الكتاب أول عبارة عن دراسة لظاهرة نحوية محضة؛ إذ القسم من مباحث علم النحو، وسندُ ذلك ما قاله ابن قيم الجوزية نفسه في مقدمة كتابه {التبيان في أقسام القرآن} حيث يقول: ((فالقسم إما على جملة خبرية – وهو الغالب – كقوله تعالى {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}( )، وإما على جملة طلبية كقوله تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}( ) مع أن هذا قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر وقد يراد تحقيق القسم. 

  والمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه …. وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب، وتارة يحذفه كما يحذف جواب {لو} كثيرا كقوله تعالى {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}( ) وقوله {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ}( ) {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}( ) {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ}( ) {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}( ) ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام؛ لأنَّ المراد: أنَّكَ لو رأيتَ ذلك لرأيتَ هولاً عظيماً، فليس في ذكر الجواب زيادة على ما دلَّ عليه الشرط))( ).

أما كتابه الثاني {أمثال القرآن} فهو دراسة لظاهرة أدبية بلاغية شأنه شأن سائر كتب الأمثال الشائعة والتي من جنسها (الأمثال في القرآن الكريم) لشمس الدين محمد بن أبي بكر، و(الأمثال من الكتاب والسنة) للحكيم الترمذي، و(أمثال في القرآن) لجعفر السبحاني ونظائرها.

من هنا يندرج الكتابان تحت عنوان (دراسة الظواهر الخطابية) وهذا المنطق لا ينتمي إلى مفهوم (التفسير الموضوعي) لأنَّ هذا النمط من التفسير يقوم على دراسة مضمون دلالي معين، ولا يُعنى بدراسة ظاهرة خطابية، والفارق ما بين الامرين فارق لكل ذي نظر؛ وإلا غدت كل دراساتنا في نطاق مستويات اللغة وموضوعات النحو أو مباحث علم البلاغة داخلةً جميعاً في باب التفسير الموضوعي والحال غير هذه البتة؛ لأنَّ دراسة ظاهرة تخصصية في النص القرآني شيء وتفسير موضوع معين في النصوص القرآنية شيء آخر مطلقاً.

وإذا كان هذا الباحث قد قسم التفسير الموضوعي على قسمين فإنَّ منهم من قسمه على ثلاثة أقسام أو ألوان كما يسميها وهي على النحو الآتي( ):

1- التفسير الموضوعي للمصطلح القرآني.

2-  التفسير الموضوعي للموضوع القرآني.

3- التفسير الموضوعي للسورة القرآنية.

 ثم يفصل القول فيها فيقول: ((اللون الأول: التفسير الموضوعي للمصطلح القرآني: وهو أن يتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم ثم يجمع الآيات التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية وبعد جمع الآيات والإحاطة بتفسيرها يحاول استنباط دلالة الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها … ومن هذا النوع هو تفسير المفردات والوجوه والنظائر))( )، ولايمكن بأي حال من الأحوال أن يقال إنَّ هذا النوع من التفسير هو تفسير موضوعي؛ لأنَّه عبارة عن دراسة لمعنى مفردة وتباين ذلك المعنى لها على وفق تباين قرائن السياق الواردة فيه، فهي دراسة لغوية سياقية محضة وبهذا لا وجود لموضوع مشترك بين النصوص تستخرج منه نظرية عامة، وأول ما يدل على انه ليس من التفسير الموضوعي في شيء اعتراف الباحث نفسه بذلك في قوله: (وهذا النوع هو تفسير المفردات)؛ أي إيراد الكلمة ومعناها فحسب، ويتوقف الأمر ههنا ولا يتجاوز هذا الحد وهذا ما يُعنى به المنهج اللغوي في التفسير .

أما ((اللون الثاني: فهو التفسير الموضوعي للموضوع القرآني وهو تحديد الموضوع الذي يتعرض القرآن الكريم له بأساليب متنوعة من العرض والتحليل والمناقشة والتعليق، فيتَّبع الموضوع من خلال سور القرآن الكريم فيستخرج الآيات التي تناولت الموضوع وبعد جمعها والإحاطة بتفسيرها يحاول الباحث استنباط عناصر الموضوع من خلال الآيات الكريمة فينسق بين عناصره، فمن هذا النوع هو إعجاز القرآن، والنسخ في القرآن الكريم، والقسم في القرآن))( ).

إنَّ الظاهر من  هذا النوع يدل على انه ليس تفسيراً موضوعياً فيما يبدو؛ بل هو اقرب إلى دراسة ظواهر استعملها النص القرآني بأوضاع مختلفة كالقسم مثلاً فهو ظاهرة اسلوبية وظَّفها النص بحيثيات متباينة لأداء غايات دلالية معينة فهو ليس موضوعاً قرآنياً؛ بل هو موضوع نحوي أسلوبي.

أما النسخ فهو ظاهرة تابعة لمباحث (علوم القرآن) فهو عبارة عن حيثية من حيثيات النص القرآني التي تنصُّ على إيقاف حكم والاستعاضة عنه بآخر؛ إذ يعتمد النسخ على مبدأ ملاحقة النص اللاحق إلى السابق وتعطيل حكم أول بالثاني لغاية إلهية معينة؛ ومن ثمة فهو من متعلقات النصوص القرآنية ولازمة من لوازمها وليس موضوعاً دلالياً داخل النص تشترك فيه جملة من النصوص تنتج بقراءتها تكاملاً نظرية وافية في الأخلاق أو الاقتصاد أو السياسية وغيرها، وقد تنبه على هذا الملحظ السيد الصدر حيث يقول: ((وأما ما ظهر على الصعيد القرآني من دراسات تسمى بالتفسير الموضوعي أحياناً من قبيل دراسات بعض المفسرين حول موضوعات معينة تتعلق بالقرآن الكريم كأسباب النزول أو القراءات أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن، فليس من التفسير التوحيدي أو الموضوعي بالمعنى الذي نريده؛ فإنَّ هذه الدراسات ليست في الحقيقة إلا تجميعا عددياً لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيها شيء من التشابه، وفي كلمة أخرى ليست كل عملية تجميع أو عزل دراسة موضوعية، وإنما الدراسة الموضوعية هي التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائدية أو الكونية وتتجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج نظرية قرآنية بصدده))( ).

وقد نسج محمد هادي معرفة على مقولة السيد الصدر موافقاً له ومتفقاً معه فيما قرَّره؛ إذ يقول بعد أن يقدم تعريفه للتفسير الموضوعي: ((وعليه فالبحث في الشؤون القرآنية هي مسائل ودلائل تدور حول القرآن، خارج عن هذا التحديد كالبحث عن القراءات واعاريب القرآن، والبحث عن بلاغته وإعجاز بيانه، وعن الناسخ والمنسوخ في القرآن، والبحث عن متشابهات القرآن وعن الحروف المقطعة وما شاكل، مما اصطلحوا عليه بـ (علوم القرآن) أي العلوم الباحثة عن شؤون القرآن، وليس بحثاً وراء الحصول على نظرة القرآن))( ) في موضوع من الموضوعات وهذا بالضبط ما أسس عليه السيد الصدر منطقه في تحديد مفهوم التفسير الموضوعي؛ لأنَّه يُبحَث فيه داخل النص بداعٍ من خارجه، وليس المراد هو أن يحوم الباحث على مدارات النص ويعدها جزاءً موضوعياً منه كحال من عدَّ النسخ من التفسير الموضوعي.

 ثم يورد الباحث ((اللون الثالث: التفسير الموضوعي للسور القرآنية وهو أن يستوعب الباحث هدف السورة الأساسي وأهدافها الرئيسة ثم يبحث عن النزول للسورة أو الآيات التي عرضت الموضوع الأساسي للسورة))( ).

إنَّ هذا اللون ينصُّ على  البحث عن هدف السورة أو موضوعها الأساس غير أنَّ هذه الدراسة تعد قاصرةً من حيث أنَّ الموضوع الذي اعتنت به هذه السورة قد يكون موجوداً في سورة أخرى أيضاً، وبهذا فإنَّ القصور سيعتري هذه الدراسة في حال الاقتصار على هذه السورة؛ ذلك بأنَّ من شروط التفسير الموضوعي أن تجمع كل الآيات المتعلقة بهذا الموضوع في القرآن الكريم. 

من كل هذا نصل إلى ان منظور العلماء والباحثين المحدثين عن التفسير الموضوعي من حيث المفهوم هو أن تجمع الآيات القرآنية التي تدور ضمن نطاق موضوع واحد وقراءتها قراءة تفسيرية متكاملة بصرف النظر عن وجود المشكل الخارجي، فكأن الأصل في هذا النمط من التفسير هو الموضوع الذي يدرس في النصوص القرآنية ولهذا سمي بـ (التفسير الموضوعي)، وان من الباحثين من توسع في فتح نطاق هذا التفسير حتى عدَّ دراسة بعض الظواهر النحوية والبلاغية جزءاً من التفسير الموضوعي؛ بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يعدّ دراسة المفردة الواحدة في الآيات القرآنية من جنس التفسير الموضوعي أيضاً.

 نقول إنَّ ما اعتمده السيد الصدر هو الأولى بالإتباع ذلك بأنَّه يرى أنَّ الأساس من المنهج الموضوعي هو البحث عن حل لمشكلة حدثت في الواقع، وأن هذا يستدعي أن يجمع المفسر سائر الآيات التي تتعلق بتلك المشكلة (الموضوع) في التعبير القرآني ويتأمّل فيها من اجل ربط أجزاء الموضوع بعضها ببعض ولملة أطرافها على وفق عامل (التضام النصي) بغاية تحقيق رؤيا وافية الجوانب تسهم في بناء نظرية يتم تطبيقها على المستعصي في الخارج الواقعي لحل ذلك العصيان الفكري بالمنطق القرآني للموضوع بأسره.

 إنَّ عملية لملمة النصوص وقراءتها بنظرة موحدة تمثل جزءاً من أجزاء التفسير الموضوعي؛ فلعله من هنا ذهب منظرو مناهج التفسير المحدثون إلى فهم التفسير الموضوعي على هذا المنوال؛ وذلك تأسيساً على حيثية الأداء لا تأسيساً على منطلق الأداء غير أن الأوجه والأصح والأكثر نفعاً على مستوى التطبيق الواقعي هو القول  بأنَّ التسمية متأتية باعتبار الداعي –كما ذهب السيد الصدر- لا باعتبار خصوصية مضمون الأداء التفسيري لهذا النمط من التفاسير؛ وبهذا يمكن تسمية المفهوم الذي تسالم عليه المحدثون بـ (التفسير للموضوع القرآني) وليس (التفسير الموضوعي للقرآن الكريم) لان لفظة (الموضوعي) قد اتصلت بها (ياء النسب)؛ لذا فهي مشتقة من الموضوع الخارجي (المشكل) لا من الموضوع داخل نسيج النص القرآني نفسه؛ لأنَّ اللجوء إلى داخل النص يرد تباعاً بعد مرحلة إثارة الموضوع في الخارج؛ من هنا يكون التفسير الموضوعي نتيجة لداعٍ وليس داعياً بحد ذاته لاستخراج معنى لموضوع معين في القرآن الكريم. 

الهوامش: 

 ( ) محمد باقر الصدر: المدرسة القرآنية: 23.

( ) ينظر:امين الخولي: دائرة المعارف الاسلامية، مادة تفسير: 5/368، ومحمد حسين الصغير: دراسات قرآنية (المباديء العامة في تفسير القرآن): 120- 121، وعبد الستار حامد: مباحث في علوم التفسير: 197، واحمد الشرباصي: قصة التفسير: 262، ومحمد شلتوت: من هدى القرآن: 322، وعبد الستار فتح الله: المدخل إلى التفسير الموضوعي: 20.    

( )   ينظر:امين الخولي: دائرة المعارف الاسلامية، مادة تفسير: 5/368

( )  محمد حسين الصغير: دراسات قرآنية (المباديء العامة في تفسير القرآن): 121.

( )  م.ن: 122، وينظر: عبد الستار حامد: مباحث في علوم التفسير: 198- 199. 

( )  ينظر: محمد حسين الصغير: دراسات قرآنية (المباديء العامة في تفسير القرآن):150- 152.      

( )  محمد شلتوت: من هدى القرآن: 322.

 وينظر: احمد الشرباصي: قصة التفسير: 262، وعبد الستار حامد: مباحث في علوم التفسير: 199،

 وعبد الستار فتح الله: المدخل الى التفسير الموضوعي: 20. 

( )  ينظر: عبد الستار حامد: مباحث في علوم التفسير: 197.

( )  م.ن: 197. 

( )   م.ن: 197.

( )  م.ن: 197.

( )  سورة الذاريات: 23. 

( )  سورة الحجر: 92- 93. 

( ) سورة التكاثر: 5

( ) سورة الرعد: 31. 

( ) سورة الانفال: 50. 

( ) سورة سبأ: 50. 

( ) سورة الانعام: 30. 

( )  ابن قيم الجوزية: التبيان في أقسام القرآن : 6. 

( ) ينظر: محمد فاكر الميبدي: قواعد التفسير بين الشيعة والسنة: 419. 

( )  م.ن : 419.

( )  م.ن : 419.

( )  محمد باقر الصدر: المدرسة القرآنية: 14- 15. 

( )  محمد هادي معرفة: التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب: 2/1037.

( )  محمد فاكر المبيدي: قواعد التفسير بين الشيعة والسنة: 419.

الباحث

د. سيروان عبد الزهرة الجنابي

 كلية الفقه/ جامعة الكوفة

07708045188 موبايل

dr_sn76@yahoo.com أميل

استاذ تحليل النص المساعد

التخصص الدقيق: الدلالة القرآنية

التصنيفات : ارشيف الاخبار
استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والاعلان